كلمات
في رواية "باب الشمس" للكاتب العربي اللبناني إلياس خوري يقول الراوي على لسان بطل الرواية "يونس": "المشكلة اليوم أنه لم يعد لدينا ما نقوله. ليست المسألة هي السلاح فلدينا منه ما يكفي، ولكن الكلمات هي التي نفذت"، ويونس هو مناضل فلسطيني قديم شار ك منذ صغره كل معارك الثورة الفلسطينية من الأربعينيات إلى ما بعد معركة بيروت، ليسقط بعيد توقيع اتفاق أوسلو ضحية جلطة دماغية ترسله إلى غيبوبة تامة، ويحاول ربيبه خليل أن يبقيه على قيد الحياة بالحديث إليه ساردا كل تفاصيل الحكاية… ما علينا
المهم هو أن الكلمات فعلا توشك على النفاذ أو نفذت، فالكلام هو وسيلة للتواصل من أجل القيام بفعل معيّن، يقود إلى وضع جديد يكون الأرضية لكلام جديد، وهكذا، أما إذا تناثرت الكلمات سدى فإنها تفقد معانيها، فأجمل قصيدة أو قطعة موسيقية إذ أعيدت في كل مناسبة يقتلها التكرار تغدو باهتة مملة. أي أن العيب ليس في الكلمات بل في غياب الفعل، أي بتحول الكلام إلى هدف بحد ذاته يؤدي بكل من القائل والمتلقي إلى نوع من الإشباع والراحة وطبعا يساعد على ذلك جمال لغتنا التي تعطي للأشياء لونا وطعما ورائحة أي ثلاثة أبعاد متخيلة، فيبدو القول فعلا وشيئا ملموسا ويدرك شهريار الصباح.
فالقضية العربية أو الفلسطينية "تمرّ" منذ عشرات السنين بـ "منعطفات خطيرة" تتطلب "رص الصفوف" و "حشد الهمم" لمواجهة "التحدي التاريخي" والمؤامرة الدنيئة" التي يتعرض لها شعبنا "الباسل" و "على كافة الأصعدة". نفس الكلام نطالعه في معظم الأدبيات السياسية (هذا إذا ترفعنا عن مناقشة بعض الأدبيات التي تكتفي بالدعوة لولي الأمر أن يهديه الله إذا أخطأ وأن يسدد خطاه للنهوض بالأمة!)، ولا أحد يدخل في التفاصيل إلا بدعوة لـ "وقفة" محاسبة مع الذات لاستخلاص العبر ولمكافحة الفساد الظواهر السلبية أو المنتفعين الذين أحاطوا بالمشروع الوطني، وطبعا دون الإشارة للمعنيين أنفسهم الذين لا مانع لديهم من الانضمام للجوقة والتنديد بالفساد والمناداة بمكافحته، طبعا مع بعض التوابل بعبارات الديمقراطية والشفافية …إلخ، وهكذا تبقى كل مقولات الإصلاح حبرا على ورق أو كلاما في الهواء إذ لم تشر للمفسدين، أو تتحول إلى عملية جلد ذاتي للمجتمع أو الثورة أو الحركة التي "أنتجت ثقافة تتيح الفساد"، أي تتحول إلى بلاغ ضد مجهول.
مزيد من الأمثلة؟ إليكم:
بعد كل عملية اغتيال لأحد المناضلين تصدر البيانات وتدعو لأخذ الحذر والحيطة واستخلاص العبر ومكافحة العملاء (مع التعهد بالثأر)، لنستيقظ بعد أيام على خبر اغتيال مناضل ثان في نفس المنطقة وبنفس الطريقة!
بعد كل اشتباك طائفي أو بين حزبين أو بين شلل داخل إطار واحد، يصدر بيان يستنكر الأحداث المؤسفة ويدعو للوحدة الوطنية ويشكر المواطنين الشرفاء الذين ساعدوا على فض الخلاف والمصالحة، ويبقى الوضع المسبب على ما هو عليه ولا يتم تناول خلفيات الإشكال ناهيك عن محاولة إيجاد حل ما، لتصدر بعد مدة وجيزة بيانات جديدة وعن أحداث مؤسفة وعلى ذات الخلفية.
جمعية عربية فاشلة تتحكم بها "ثلة من المحترمين" تعقد اجتماعها "السنوي" كل خمسة أعوام لتجدد "البيعة" لنفس الأفراد، وكل مرة تصدر دعوة وتتحدث عن دعوة لاجتماع عام تناقش فيه الأزمة العامة والأزمة التي تمر فيها الجمعية وسبل الإصلاح وإيجاد أطر أكثر ديمقراطية، ويجتمع الأعضاء الذين تم طوال الوقت نسيان وجودهم، وبدلا من ا لبحث عوامل وأسباب الفشل (أي المتسببين فيه)، يتحدث هؤلاء بالذات عن فتح صفحة جديدة ونسيان الماضي وموعد انتخابات قريب، ولا تعقد هذه الانتخابات إلا بعد التأكد من تثبيت نفس الأفراد لتعود الجمعية إلى سباتها لأعوام أخرى.
هذه أمثلة بسيطة لرؤية أن كلمات نبيلة مثل "الديمقراطية" و"الإصلاح" و"الثورة" و"الشفافية" و"المحاسبة"، ناهيك عن "الجماهير والنضال والعمل الوطني" فقدت بفعل التضخم في تكرارها أي معنى أو أثر إذ لاكها كل من هب ودب وبدون فعل حقيقي، فبات المواطن العربي حاملا للمناعة ضد الكلمات، فاهما و"يتغابى" وينتظر قدوم مسيح أو مهدي من السماء ليسد حاجة الأمة إلى نبي ما.
الجميع تقريبا يعرف ما هو المطلوب ومتفق تقريبا على تحليل الموقف. يبقى فقط الاقتناع بضرورة المبادرة بالعمل المنهجي، أي العمل المنظّم، أي ضرورة التنظيم، لتعود للكلمة معناها، وتعود إلينا اللغة فيعود الوطن.
2 Comments:
هذا تعليق متأخر سنة و بضعة أيام, ولكن ليس المهم انت تأخر, المهم انه وصل. أليس كذلك يا رفيق؟
في هذا التعليق "المهم" أريد ان اقول اني بت على قناعة تامة ان العمل الذي يسبق و يلي الكلام هو الكفيل متة استمر بمحاسبة الذات و الفكرة و طريقة العمل.
يعني من وجهة نظري "المهمة" لا يمكن لأي احد ان يقوم بأي فعل في ثانية ومن ثم يقيمه في سنة_وهو حال اغلب المشتغلين بالسياسة في عالم اليوم "المناضل"_ ربما لأن يتعلمت من تجربة العمل مع الناس المستمرة منذ الحرب لليوم ان العمل على الارض و الانشغال الحقيقي بأن يتم بأفضل شكل ممكن هو الكفيل بتصحيح الفكرة و الممارسة و رد الفعل من الناس ومن الفعل نفسه هم افضل مجاسبة و تقييم من كل التنظيرات و الكلام و الاطر الفلسفية للاشياء. لا انفي اهميتها طبعاً, ولكنها وحدها لا تقدم و لا تؤخر شيئاً, متى لم تقترن بالفعل و بالتعاطي اليومي مع الناس فستظل "كلمات بكلمات"
وشكراً لحسن الاستماع لكلماتي المهمة:)
يعني مفقين رفيقة! أي عمل بدون برناج هو نكاح وعويل في الصحراء
البرنامج لا قيمة له بدون عمل، ونحن نعاني من الانفصال التام بين الاثنين
إرسال تعليق
<< Home