على حاجز حوّارة
تقع حّوارة على المدخل الجنوبي لمدينة نابلس على طريق القدس، وفي الماضي كان الوصول إليها مرورا بالفاعدة العسكرية الإسرائيلية ما يمكن وصفه بتنفس الصعداء بعد الرحلة الطويلة من القدس على الطريق القديمة عبر مرتفعات اللّبن والتي كانت تستهلك ساعة كاملة من الزمان. ساعة واحدة؟! وكاملة!
أيّام...
سمع جيلنا بهذا الإسم لأول مرة في بداية الثمانينيات عندما قيل لنا أن العساكر اختطفوا الطفل عدنان وأخذوه في سيارة الجيب، ثم ألقوا به في "حوّارة"، وعليه فليس من المسموح لنا اللعب في الشارع حتى لا يخطفنا الجنود. لم يفهم أحد معنى هذه الحوّارة التي ألقى الجنود عدنان بها، فتخيلنا بعضا كحفرة كبيرة، وتصورها البعض دوّامة أوشيء من هذا القبيل،. عدنان نفسه لم يحصل له شيء سوى بعض الرعب (أي أن الجنود اكتفوا ببعض الصفعات... أو القبل...)، وعاد ليكون بطلا لبضعة أيام قبل أن ننسى القصة وتنساها الأمهات اللواتي عدن لتفضيل وجودنا في الشارع على ضجيجنا وعراكنا في البيت، ونسيت المدينة القصّة مع وقوع احداث جديدة، وعاد عدنان إنسانا عاديا يتلقى الصفعات من الأطفال الأكبر في الشارع، مثلنا تماما، ولكن ظلّت "حوّارة" على العموم عالقة بأذهاننا كـ "نهاية العالم" أو "آخر الدنيا" كما التعبير النابلسي.
مقدمة نظرية
حوارة التي كانت في الماضي "آخر الدنيا"، صارت اليوم نهاية النهايات، وتحوّلت إلى معبر حدودي بمعنى الكلمة تتضاءل أمامه معابر رفح وجسر أللنبي، وهي العقبة الكأداء (كيف هالكلمة؟) أمام أي رحلة إلى العالم الخارجي قبل أن تلاقيك حواجز أخرى متحرّكة أو ثابتة، قبل أن تصل إلى الجسر أو إلى معبر حدودي جديد أمام مدينة أخرى ليست ببعيدة.
في حوارة يكون الشيء الأهمّ لصحّتك النفسية هو أن تتجاهل إنسانيتك، وأن تترفع على عوامل الطقس فتبتسم كسائح للشمس المحرقة (لنسميها هنا ... المشرقة) وتضحك كطفل للمطر، وأن تنسى أننا شعب في مواجهة أي شعب مناضل حتى لا تدفعك خيبتك من هذا المجموع إلى العمالة أو إلى مزيد من الكحول، والاهم من هذا كلّه هو أن تنسى عامل الوقت. هنا نعدّ لوقت ببساطة بالأيام، أما الساعات فهذه تنظر إليها في وسط المدينة إذا تأخر سائق العربة التي أمامك أمام إشارة مرور ا زالت صفراء، أو تباهي بماركتها إذا كنت ممن أنعم الله عليهم.
استهلال
ذات ظهيرة أمام الحاجز. مئات "المواطنين" يتكدسون أمام بابين معدنيين دوّارين متجاوري، أحدهما للنساء والآخر للرجال. الباب يتسع بالكاد لشخص واحد، أما الحقائب فيمكنك إرسالها على ظهر حمار إلى الجانب الآخر. الأفراد يمرون بإشارة من الجندي تباعا (نفر نفر) من الباب، ثم يتجه الشخص وبندقية الجندي مصوبة إلى رأسه إلى باب كاشف للمعادن حيث يخلي جيوبه، ويمر..
في هذا النهار كانت أغلبية الموجودين من الرجال، في حين اصطفّت بضع عشرات من النساء أمام الباب الثاني. نذكّر هنا بأن الفصل بين الجنسين هو قانون غير مكتوب اتفق عليه وضعيا في الجانب العربي وهذا يحكم التدافع والألفاظ النابية التي قد ترافقه، فالكلّ لديه حالة طوارئ والكل هنا منذ الصباح، والكل "مش وشّ بهدلة" وأصغر ولد يصرخ في وجهك "إنت مش عارف مع مين بتحكي!"، يعنى كل يقول أللهم نفسي..
الجانب النسائي لا يبدو أفضل، لكن العدد أقلّ أي أن هناك أمل أكبر بالمرور خلال فترة أقل. جميع النساء محجبّات، وطبعا الاختلاط فتنة.
يظهر قجأة جسم نسائي غير محجّب، يعني فتاة ترتدي قميصا (طويل الأكمام) وبنطالا أو شيء من هذا القبيل، ونا تتحرك شوارب الرجال، ويتلاشى الاحترام المصطنع للسيدات، وتتحرك أشياء أخرى.
- شو شكلها طويلة اليوم!؟
- أني عارف؟! طيب إزا ما فشّ كتير نسوان خلّينا نروح نصفّ هوناااك!
- يعني هلقيت عشان هادي المدام صار الباب كلّه محجووز؟
.....
وهكذا، ثم تتوجه مجموعة من الشباب إلى الباب الآخر وتدخل في جدال مع النسوة، ويتعالى اللغط
رجل في أواسط العمر يرتدي عباءة وكوفية تقليدية، يبدو عليه الوقار يشعل غليونه ويعلّق بلهجة تميل إلى البداوة:
يعني هاظا كله عشان الـ "شقفة" اللي هناك؟!
ثم يمسّد شاربه ويهزّ رأسه على طريقى العارفين ويستطرد:
"بسّ إيه والله هيّ البنت فعلا "شقفة!"
نهايته
شاب على رأسه نظارة ماركة ريبان مرفوعة و"شكله مش من هوني" يبدي تضايقه من الفوضى الذاتية والإذلال الموضوعي، ويحتجّ ويتشاجر مع الجميع، مع الشعب "الصامد" النذل الذي لا يعرف الاصطفاف بالطابور، مع أصحاب الحمير.. الحمير الذين يتعاملون بـ "حقد" مجهول الأسباب مع الحقائب وبأكاديمية مذهلة مع الواقفين، وبالطبع مع الجندي خلف الحاجز الذي توقف عن الإشارة للقادمين لانشغاله بتذوّق فنجان القهوة وبالتدخين، أو بالحديث مع مجنّدة حسناء، أو بعدّ خصيتيه..
أخيرا جاء دور صاحبنا الذي نجح بحركة بهلوانية بالتعلّق بالباب الدوار والمرور محبطا مجاولة أحد "المهمّين" تجاوزه. وصل إلى كاشف المعادن، نظر إلى الجندي باختقار و"شموخ"،والنظارة الريبان مقلوبة على رأسه أفرغ جيوبه ومرّ، و... بيييييييييب!
رنّ الكاشف، فتحفّز الجندي الذي يصوّب البندقية، بينما ابتسم الثاني بخبث وأمره بعربية مكسّرة: إغجاع ماغّا تانيه وإشلاخ إل بوت".
خلع حذاءه ومر مجددا، ورن الكاشف مرة أخرى.
الجندي: إشلاخ إل إشات
خلع الحزام ومرّ، بييييب!
الجندي: إشلاخ الكميس
الجندي الثاني يصوب ما زال يصوّب البندقية إلى رأس الشاب
خلع القميص
بييييب
القميص التحتاني
بييييب
الجوارب
بييييب
البنطلون
وما زال الـ بيييييب، والعرق يتصبب من جبين الشاب الذي بدأ يعتريه الخوف من الجهاز والجندي ودماغه يحسب كل الاحتمالات، وانخلع قلبه بعد أن لم يبق شيء يخلعه
الجندي يكتم بالكاد ضحكته: خلاس، إشلاخ إل.... نظّارة!
2 Comments:
سيدي العزيز
انت على حق حاجز حوارة اليوم يعبر في الحقيقة عن المعاناة اليومية الفلسطينية
http://almanarasquare.blogspot.com
او
http://almanarasquare.com
http://ramalla.org
بس وين نولي وجهتنا رفيق!!
على الهامش
نموذج ال-ئرفان- من هال ودع
متفشي جدا ويعتبر هدف مباشر وسهل للسخرية
يعني لو استلمتوا مسخرة كان نسيت-ئرف-حوارة مع الضحك
إرسال تعليق
<< Home