القاهرة بعيدة، ومن الصعب التبين عم إذا كان الهديل في مقهى البورصة وسط البلد قد خف بفعل الأحداث الأخيرة والاعتقالات أم زاد، أيضا بفعل الأحداث الأخيرة وتزايد النشاط، واستهلاك الشيشة.
قد يفتقد العمّ فتحي هذه الأيام عددا من الوجوه التي اعتاد رؤيتها، والعم فتحي ذو ذاكرة ضعيفة فيما يتعلق بالطلبات التي ينساها قبل أن يصل إلى المطبخ، لكن له على ما يبدو ذاكرة فوتوغرافية
(يعني كان ينفع طالب حقوق أو طب في ظروف أخرى)
اليوم ربما تلمح إبليس بملامحه الدقيقة وهندامه الأسود الأنيق، ووجهه البريء لولا عينين يلمع فيهما ما يجعلك تتوقع الشيء ونقيضه، ولكن هذه المرة لن يحضر غريمه يحيى مجاهد لتشتعل المعركة مثل كل مرة حول كس أم مصر، لأن يحيى معتقل، ولأن مصر الآن في حالة مخاض.
سترى أيضا الآخرين، شباب الكرامة، الاشتراكيين الثوريين جماعة لندن، شباب مركز "عدالة" القريب من المكان والذين ستسألهم مجددا عن جمال عبد الفتاح المعتقل،
وفي كل معسكر سترى المدونين الذين عرفتهم قبل أن تتعرف إليهم: بنت مصرية، عمرو عزّت، السهروردي، ربما أيضا اسكندرية البيروتية،
قد تختلف مجددا مع صاحب الـ "نديميات" حول هوية "المزة المصرية" الحقيقية، فهو يصر على أنها على الأغلب رجل وأنت تريد أن تراها تلك الفتاة ذات القميص الخمري والتي تجلس على طاولة قريبة، لكن على الأغلب سيكون الموضوع مختلفا هذه المرة.
ترى أيضا شعراء شباب قد تلمع بينهم ابتسامة النوبي العذب يحيى رامي ذو "الوطن المخروم"،
أيضا مسرحيون تجريبيون ومغامرون،
وفي النهاية أيضا عناصر أمن دولة يراقبون الجميع. قائمة الحضور والغياب قد تطول وقد تقصر، لكن البورصة هي البورصة، عرض وطلب.
اليوم لن يكون محور النقاش كون عبد الناصر قديسا أو مجرد برجوازي صغير، وقد تتراجع شعبية النقاش حول المثقف العضوي أو المثقف المثقف. قد تخف لكنة التهكم علىأيمن نور وقد يتلاشى حماس أنصاره اللبراليين. اليوم لن ترى مالك، و"بطرس" أيضا غير موجود وعلى الأغلب ذهب إصلاح أسنانه بعد أن تهشمت مرة أخرى. الجو هادئ بغياب ندى، ولكن لن يريحك هذا الهدوء لأنك تعرف سبب غيابها.
زينب بائعة الصحف بنت الحادية عشرة ستأتي بالتأكيد بعد العاشرة مساء، وكالعادة سترفض البقشيش وستؤكد أنها لا تحتاج لأي مساعدة، وفي الصحف ستقرأ القصة بكل رواياتها المتعددة تعدد الرواة.
غير بعيد من هنا تقع نقابة الصحفيين، المحامين، دار القضاء العالي، ميدان التحرير، وإلى هنا تأتي الأخبار تباعا. قد تستغرب لقاء الجميع هنا بعد كل ملاحقة من هناك، وسيكون انطباعك الأوّلي أنه مهما كانت المعارضة "غبية" فالدولة أغبى، والذكي هو الاقتصاد (أي العم فتحي الذي لن يبلغ عن زبائنه)
ذات يوم سيلتقي هذا الطيف الملون الجميل على بقعة مشتركة تنبت منها مصر جديدة وسيتنهي الجدل الأهلاوي الزملكاوي بين الفصائل،
إبليس سيلمّ أوراقه عندها وسبحث عن مقهى آخر، ربما في روكسي أو الزمالك، أو قد تتهشم أسنانه هو أيضا أمام النقابة أو في تظاهرة مع عمال المحلّة
لكن إذا كنت هناك الآن فأنت في مصر ما قبل العاصفة، أو ما قبل الكارثة
فتمتع بالليل الصيفي الرخو واستمتع بصوت أم كلثوم المنساب من مذيع المقهى، ودحرج التماسي على الورد الذي يتفتح في جناين مصر