Colateral Damage
أول أمس
انضم عشية الأحد إلى قائمة شهداء الكولاتيرال داماج، سيء الحظ الجندي الأنونيموس الذي استشهد للمرة الثانية على ثرى الوطن الحبيب وهو يحاول التوازن على قاعدته المهتزة بفعل عوامل الحت والتعرية الأوسلوية، الجندي الأنونيموس يجلس الآن في برزخ ضحايا الموت العبثي إلى جوار بائع الفلافل عاشور وغيره من المنحوسين، بعد أن قام متشددون بنسفه وسحله في الطرقات...
شيد نصب الجندي المجهول في غزة في الخمسينيات كرمز لشهداء العمل الفدائي مصريين وفلسطينيين، وقف حاملا بندقية الكارل غوستاف (بورسعيد) مشيرا بإصبعه إلى الشمال أو الغرب لا أعلم. واسشهد للمرة الأولى لدى سقوط القطاع عام 1967. ولسوء حظه عاد مع عرفات والقوة 17 وأبطال أوسلو، المستمدين شرعيتهم من العمل الفدائي وجنوده المعروفين المجهولين الذين اختزلوا في كوفية الزعيم، ليقف مجددا في غزة، خارج السياق، مشيرا بنفس الاتجاه في فترة تعطلت فيها البوصلات.
تعرض الفقيد لعدة اعتداءات من أطراف مجهولة، كان أشهرها في عام 1997 عندما قام مجهولون آخرون (على الأغلب من هواة جمع الطوابع) بانتزاع البندقية، لتصحو غزة على جندي فيه خواء في الجانب الأيمن، مشيرا في اتجاه الفعلة. بعدها، ورغم إصلاح الضرر، كثرت الأضرار والثقوب في الفقيد نتيجة لوقوفه في طريق كل المسيرات المظفرة من أعراس واشتباكات متقطعة وقصف جوي وهرمونات ذكورة زائدة، وهو يشير بصبر إلى مكان ما.
تكتظ الصحف ببيانات النعي الصادرة عن أشاوس الثقافة الوطنية الفلسطينية"، والتي تدين هذا العمل الطالباني الأخرق وتبشر بانتهاء القضية الفلسطينية ومطلب الدولة الفلسطينية التي كان الجندي المجهول (حسب زعمهم) يرمز إليه. الجندي المسحول يشير في كل اتجاه، وحماس تشير في اتجاه جماعة السلف، وأصابع إعلام "الثقافة الوطنية" تشير إلى حماس...
أشاوس الثقافة الوطنية المتباكون على المرحوم الذي يرمز لشهداء العمل الفدائي لم يحركوا أصابعهم من أجل استرداد جثث أي من شهداء العمل الفدائي، القابعة في مقابر الأرقام، في قبور مجهولة لا يفك أرقامها إلا ذو علم.
أشاوس الثقافة الوطنية لم يحركوا ساكتا لإنقاذ تاريخ الحركة الوطنية وشهدائها، الذي أكله الدود في ملفات مركز الأبحاث الفلسطيني التي تركوها تتعفن في مخازن الثورة في الجزائر وفي غزة فيما بعد
أشاوس الثقافة الوطنية الذين مسخوها إلى فولكلور راقص تموله المنظمات غير الحكومية، وأزالوا منها كل ما يتعارض مع "ثقافة السلام"، يتباكون الأن على الفقيد.
ربما في نفس السياق يحزن إلياس الخوري اليوم، فقط على اختفاء الكوفية واستبدال القناع الأسود بها..
الرمز، اي رمز، يأخذ قدسيته من الواقع الذي أفرزه، ويفقدها مع سقوط هذا الواقع. فقيدنا عاد لسوء حظه مع عائدي أوسلو، وعودته كانت إنجازا بحجم الإنجاز الذي تحقق بعودتهم. العلم، الكوفية، النشيد، هي كلها أيضا رموز نفس الحركة الوطنية التي كان تعبيرها م ت ف، وكلها أيضا تتلطخ بما لطخها، وتسقط بدورها معها، ضحية للمقدمات والنتائج.
في الجزائر ابتذلت جبهة التحرير نضالات الثورة، ومسختها بدورها إلى فولكلور يمجد أقطاب النظام، واختزلتها في نصب الشهداء، فلم يكن نصيبه أفضل عندما طالته سخرية بلحاج، مسميا إيّاه "هُبل".
في العراق، وتخليدا لذكرى معركة الفاو، نصبت على طريق البصرة مئات التماثيل المجسمة لجنود يشيرون جميعا إلى الجانب الإيراني من الحدود. النظام يخلد معركته، وأبناء البصرة، الذين فقدوا الإيمان بالنظام ولم يئمنوا أصلا بقادسيته، يسمون الشارع بشارع الأصنام. انتهى النظام الذي لم يخلق مقومات للدفاع عن الوطن، وتحطمت مما تحطم من التماثيل تماثيل شارع الأصنام، وتناثرت مشيرة في كل اتجاه، وأكثرها يشير إلى بعضه البعض.
الحركة الوطنية الفلسطينية، برموزها وشعاراتها التي ابتذلت فشحبت فباخت، يزيحها التاريخ الماكر لتصعد حركة جديدة، برموزها وشعاراتها هي.
وحتى نتبين عمق القطع الثقافي بين الحركتين، سيكون من سوء حظ الفقيد أنه وقع بين نيران سدنة ولصوص المعبد من جهة، ومن جاء ليهدم المعبد ليقيم معبده هو، من جهة أخرى.
وإلى أن تتوضح أولويات الإله الجديد، وإلى أن يحسم التاريخ رأيه، أو على الأقل إلى صدور فتوى ما بأثر رجعي تعيد الاعتبار للفقيد، وباعتباري من أتباع الدين القديم ولم تعتاد مخيلتي بعد على الإله الجديد، فلا يسعني سوى أن أقول "إغفر لهم، إنهم لا يدرون ماذا يفعلون"
بعدين خلص بيكفي تعيّط، بكره بنصلّحك!
يتبع مع آخر إبداعات شاعر "الثقافة الوطنية" محمود درويش ودرر حسن البطل المنثورة في جريدة "الأيام"